أسقطت القوات التايوانية، في 1 سبتمبر الجاري، طائرة مدنية مسيرة مجهولة الهوية، كانت قد دخلت المجال الجوي التايواني فوق مياه جزيرة شيو في بلدة ليو في مقاطعة كينمن، وحاول الجيش التايواني أولاً تحذير الطائرة من خلال قنابل مضيئة، إلا إنها فشلت في الاستجابة للتحذيرات، بينما أعلنت واشنطن، في 2 سبتمبر، أنها أقرت صفقة بيع معدات عسكرية إلى تايوان بقيمة 1,1 مليار دولار، تتضمن 60 صاروخاً مضاداً للسفن و100 صاروخ جو – جو، وذلك في إطار تعهدها بمواصلة تعزيز دفاعات الجزيرة في ظل تصاعد التوترات مع بكين. كما كشفت واشنطن، في مطلع سبتمبر، عن تفكيرها في فرض عقوبات اقتصادية ضد الصين على خلفية الأزمة التايوانية.
تصعيد تايواني – أمريكي:
اتجهت تايوان إلى تبني إجراءات للتصعيد ضد المحاولات الصينية الرامية إلى تعزيز نفوذها على الجزيرة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- إسقاط طائرة مسيرة صينية: أطلقت تايوان طلقاتها التحذيرية لإسقاط طائرة مسيرة بعد وقت قصير من إصدار رئيسة تايوان، تساي إنج – ون، تعليماتها للجيش التايواني باتخاذ "إجراءات مضادة قوية" ضد ما وصفته بالاستفزازات الصينية، والتي تتلخص في الطلعات التي تقوم بها الطائرات الصينية المسيرة في المجال الجوي التايواني.
وواجه الجيش التايواني انتقادات واسعة لعدم اتخاذ أي إجراء في مواجهة مثل هذه الحوادث. ويبدو أن تايوان، من خلال إسقاط الطائرة، قررت أن تبعث برسالة مفادها أنها قادرة على تنفيذ وعودها بشأن الدفاع عن الجزيرة في مواجهة أي هجوم صيني محتمل.
2- زخم مدني لتعزيز دفاعات تايوان: يوجد إجماع داخل صفوف النخبة التايوانية على ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي في عام 2023؛ وذلك لتعزيز قدرة تايوان في الدفاع عن نفسها. وهناك تقديرات بأن مخزونات احتياطي الحرب في تايوان غير كافٍ، وأنه يجب على تايوان زيادة إمداداتها من الوقود والغذاء والأدوية والذخائر المهمة.
وينعكس الزخم في تعزيز القدرات العسكرية التايوانية في الوعود التي قدمها روبرت تساو، مؤسس شركة الإلكترونيات الدقيقة المتحدة، ثاني أكبر شركة لتصنيع الرقائق الإلكترونية في تايوان، والذي أكد أنه سيقدم 600 مليون دولار تايواني (19,6 مليون دولار أمريكي) لدعم مبادرة المجتمع المدني لتدريب 3 ملايين مقاتل مدني، فضلاً عن 400 مليون دولار تايواني للتدريب على الرماية.
3- تعهدات بهجوم مضاد: أعلنت تايوان قبل يوم واحد من اختراق الطائرة المُسيرة الأجواء التايوانية أنها ستمارس حقها في الدفاع عن نفسها وشن هجوم مضاد إذا دخلت القوات الصينية أراضيها، وذلك مع زيادة بكين أنشطتها العسكرية بالقرب من الجزيرة.
وفي هذا السياق، قال لين وين هوانج، نائب رئيس هيئة الأركان العامة للعمليات والتخطيط إنه "بالنسبة للطائرات والسفن التي دخلت مجالنا البحري والجوي البالغ 12 ميلاً بحرياً، سيمارس الجيش الوطني الحق في الدفاع عن النفس وشن هجوم مضاد من دون استثناء".
4- تجاهل واشنطن سقوط الطائرة: لم يعقب البيت الأبيض، أو الخارجية الأمريكية على حادث سقوط الطائرة المسيرة، والتي أسقطتها القوات التايوانية، في 1 سبتمبر الجاري. ويبدو أن الإدارة الأمريكية فضلت عدم التعقيب لتفادي تتوتر العلاقات مع الصين حول هذا الحدث.
5- بيع أسلحة أمريكية إلى تايوان: قامت الولايات المتحدة بإقرار بيع أسلحة أمريكية إلى تايوان. وجاءت الإعلان عن صفقة بيع الأسلحة بعد شهر من زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، لتايوان. وتتضمن تصدير واشنطن صواريخ جو – جو من طراز هاربون بقيمة 355 مليون دولار، وصواريخ سايدويندر جو – جو بقيمة 85 مليون دولار، بالإضافة إلى حزمة دعم لوجستي بقيمة 655 مليون دولار لبرنامج رادار المراقبة التايواني.
كما وقعت الولايات المتحدة صفقة بقيمة 555 مليون دولار مع تايوان لشراء أربع طائرات مسيّرة من طراز "سي جارديان" (Sea Guardian)، وسيتم تسليم أول طائرة مسيرة في عام 2025، والثانية في عام 2029، ومن شأن الصفقة أن تحسن قدرة تايوان على مواجهة التهديدات الحالية والمستقبلية من خلال توفير الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع في الوقت المناسب، والاستحواذ على الهدف.
6- تأكيد واشنطن حرية الملاحة في مضيق تايوان: أعلن الأسطول السابع الأمريكي، في 28 أغسطس 2022، في بيان له "إرسال حاملات الصواريخ الموجهة "يو إس إس أنتيتام" (USS Antietam) و"يو إس إس تشانسلورزفيل" (USS Chancellorsville)؛ للإبحار عبر مضيق تايوان، وهو ما يكشف عن عزم واشنطن على الحفاظ على وجود بحري في الممر المائي.
وردت الصين على ذلك عبر التأكيد بأن جيش التحرير الشعبي قد "أجرى تتبعاً أمنياً ورصداً لمرور السفن الحربية الأمريكية على مدار المسار بأكمله"، مؤكداً أن "جميع تحركات السفن الحربية الأمريكية كانت تحت السيطرة، ومتهماً واشنطن بـ "استعراض عضلاتها" باسم ممارسة حرية الملاحة.
7- محاولة حصار الصين تكنولوجياً: طلبت السلطات الأمريكية، في مطلع سبتمبر 2022، من شركة "نفيديا كورب"، المصممة للرقائق الإلكترونية، ومنافستها شركة "إيه إم دي" (AMD)، التوقف عن تصدير شرائح الحوسبة لأعمال الذكاء الاصطناعي إلى الصين، وهي خطوة تهدف إلى تعطيل العديد من الصناعات المدنية والعسكرية الصينية، وهو ما يؤشر إلى انتقال الصراع بين واشنطن وبكين إلى التكنولوجيا المتقدمة، وإمكانية اتجاه واشنطن مستقبلاً لفرض حظر على تصدير منتجات تكنولوجية معينة إلى الصين تحت ذريعة ردعها عن مهاجمة تايوان، خاصة في ظل كشف الولايات المتحدة عن نواياها لفرض عقوبات على الصين بسبب سياستها تجاه تايوان.
ردود فعل صينية غاضبة:
اتجهت الصين للرد على التصعيد التايواني – الأمريكي من خلال تبني الإجراءات التالية، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- التهوين من الحدث: قالت وزارة الخارجية الصينية إنّ تايوان تحاول إثارة التوترات بعدما أسقطت الطائرة، إذ أشار المتحدث باسم الخارجية الصينية، تشاو لي جيان، إلى أن "محاولة الحزب الديمقراطي التقدمي إثارة التوترات لا تعني شيئاً"، فيما لم تعلن أي من تايوان أو الصين صراحة أنّ المسيرة جاءت من الصين.
2- إرسال طائرات مسيرة إضافية: عبرت نحو 17 طائرة مسيرة صينية، في 10 سبتمبر الجاري، الخط الأوسط لمضيق تايوان، وهو خط يُنظر إليه عادة كحاجز غير رسمي بين الجانبين، وذلك من دون أن يتمكن الجيش التايواني من إسقاطها، وهو ما يعد رسالة صينية لتايوان بأن القدرات العسكرية للقوات المسلحة الصينية لا يمكن مقارنتها بنظيراتها التايوانية.
3- رفض صيني للتسليح الأمريكي لتايوان: دعا المتحدث باسم السفارة الصينية في الولايات المتحدة واشنطن إلى وقف مبيعات الأسلحة لتايوان والتفاعلات العسكرية معها، والإلغاء الفوري لصفقة مبيعات أسلحة لتايوان؛ حيث أكد أن هذه الخطوة ستؤدي إلى مزيد من الإضرار للعلاقات بين الصين والولايات المتحدة، وربما ستقوض السلام والاستقرار في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي.
4- تصعيد التدريبات العسكرية بالذخيرة الحية: لم يؤد حادث إسقاط الطائرة المسيرة من قبل تايوان إلى ردع الصين عن مواصلة تدريباتها العسكرية واسعة النطاق بالقرب من تايوان؛ بل على العكس، زادت بكين من مناوراتها اليومية، والتي كان آخرها الإعلان عن إجراء مناورات عسكرية بالذخيرة الحية في المياه الجنوبية للبحر الأصفر في الفترة من 1 إلى 6 سبتمبر الجاري.
التداعيات المحتملة:
لا شك أن التطورات الأخيرة تنبئ بمزيد من التصعيد خلال الفترة القادمة، والذي من شأنه سيؤدي إلى التالي:
1- تخلي واشنطن عن الغموض الاستراتيجي: اتسمت سياسة الولايات المتحدة تجاه تايوان بالغموض الاستراتيجي، إذ إنها تدعم وحدة الأراضي الصينية، ولكن سلمياً، ومن غير الواضح ما هو الموقف الأمريكي في حالة قررت بكين ضم تايبيه عسكرياً، غير أنه من الواضح أن واشنطن بدأت عملياً تتخلى عن هذه السياسة لصالح الوضوح الاستراتيجي، وهي دعم استقلال الجزيرة عن الصين، عبر دعمها عسكرياً، فضلاً عن الحديث عن إمكانية فرض عقوبات ضد الصين بسبب سياساتها تجاه تايوان، وهي الخطوات التي قد تؤدي إلى تصاعد التوتر بين البلدين، وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على التدخل في صراع عسكري حول تايوان ضد الصين بشكل مباشر.
2- اتجاه بكين لعسكرة الصراع: ستواصل الطائرات الصينية المسيرة عبور خط المنتصف، والقيام بمناورات عسكرية بالقرب من الجزيرة، وذلك لتأكيد قدرة الصين على التدخل عسكرياً ضد تايوان متى أرادت ذلك، وهو الأمر الذي سيفرض ضغوطاً على الجيش التايواني، كما قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب، وهو ما قد يضع البلدين على حافة المواجهة العسكرية، خاصة أنه من المتوقع أن تتجه الصين إلى تبني إجراءات تصعيدية رداً على أي دعم عسكري أمريكي لتايوان.
3- أزمة اقتصادية عالمية محتملة: سوف يؤدي نشوب أي حرب حول تايوان إلى شلل شبه تام في الصناعات الإلكترونية، نظراً لأن تايوان تُعد المورد الرئيسي للرقائق الإلكترونية في العالم، إذ تشارك بحصة تصل لنحو 90% من إجمالي الطلب العالمي من الرقائق الإلكترونية، وبالتالي، فإن مزيداً من التصعيد التايواني – الصيني، تعقبه كارثة في قطاع الصناعات التكنولوجية في العالم.
وفي الختام، تكشف حادثة إسقاط تايوان طائرة مسيرة، فضلاً عن إبرام واشنطن صفقات عسكرية مع تايبيه عن استمرار السياسات الأمريكية الرامية إلى استفزاز الصين، ودفعها لتبني مواقف عدائية تسعى واشنطن لاستغلالها لتحقيق مصالحها الخاصة، سواء عبر دفع الشركات الغربية لمغادرة الصين، أو محاولة فرض عقوبات تكنولوجية على بكين في محاولة لعرقلة صعودها السريع إلى مصاف القوى الكبرى.